الشيخ محمد بن سيف الأغبري أديب وحكيم من أعلام عمان الأفذاذ






الشيخ محمد بن سيف الأغبري أديب وحكيم من أعلام عمان الأفذاذ


ولادته عام 1920 م في ولاية دماء والطائيين في بيئة طبيعية جبلية التي ساهمت في صقل شخصيته وكما تقلد عددا من الوظائف منها والي على عدد من الولايات منها 1974 بولاية إبراء وله نظم من القصائد والأودية الشعبية وتوفي عام 1997 عن عمر ناهز سبعة وثمانين عاما.

حيث تناولت الندوة عددا من أوراق العمل قدم الورقة الأولى سعادة الشيخ أحمد بن عبدالله الفلاحي أما الورقة الثانية فقدمها د.سيف بن يوسف بن سيف الأغبري وأدارها الدكتور محسن بن حمود الكندي الذي قدم لأوراق العمل متحدثا عن تاريخ الشيخ الأدبي والإداري وعلاقته بمشايخ تلك الفترة التي عاش فيها الشيخ محمد الأغبري، و ذكرا بعضا من قصائده المتنوعة منها قصائد في النصح والتهنئة والأحوال الاجتماعية المختلفة، وأنه رجل المواقف الاجتماعية وذكر منها دوره في تجنب المجتمع عددا من المطبات التي تعرض لها المجتمع العماني ومنها المد الشيوعي. كما ذكر د. محسن بعضا من الأماكن التي تعلم فيها الشيخ ونشأ فيها وهي بلدة الثابتي.






أحمد الفلاحي
عرف الشيخ محمد بن سيف الأغبري بأنه من الرجال الأفذاذ الحكماء المتميزين بين أعلام الوسط العماني في زمانه فقد كان مصلحا ومسددا للأحوال عاقلا نبيها فطنا ينظر للأمور نظرة البصير المدقق غير المتعجل وقد عرفه الناس بتلك الصفات فقصدوه ملتمسين عونه ومشورته فيما ينوبهم من أحداث الدهر فكان الخبير المتعمق الذي يعطي لكل مشكلة حلها في رزانة وهدوء وكم من صعوبات بدت كما لو أنها معيقة صعبة الإزاحة لا سبيل للتخلص منها عالجها بطريقته السلسة النافذة فذابت وتبددت. فالرجل بحكم ممارسته الطويلة لمتغيرات الحياة وتطوراتها قد اكتسب التجارب المؤثرة والرؤى الواقعية وذلك من خلال موهبته الفذة وذكائه المتقد النابع من نفسيته اللماحة المدركة منذ بواكير حياته الأولى وكان الموقذ الأول لتلك الحواس الذاتية المرهفة والده العلامة الكبير البارز المشهود له بصواب الرأي وجودة التدبير فقد كان هو مربيه ومعلمه وموجهه في بدايات صباه قبل أن يلتحق بالمدارس ويقعد مقعد المتتلمذ. وكلما كبر والتمع شبابه كانت تلك المدرسة الراشدة العظيمة الأفق هي حاضنته ومحيطه الذي يتقلب فيه من طور إلى طور يصعد في سنوات العمر ويصعد في المعرفة من جميع تجلياتها فقهية أو سياسية أو اجتماعية قبلية تتعاطى مع جمهور الناس من حوله. وإذا فاته شيء من مدرسة أبيه الواسعة استدركه من أستاذه الآخر أخيه الأكبر الشيخ سالم بن سيف الذي كان فقيها وقاضيا وأديبا وشاعرا وحصيفا في معالجة معظلات الأمور. ومع التحصيل العلمي والعملي الذي أخذه هذا الشيخ في أوليات شبابه ظهر لديه الاهتمام بالأدب متأثرا بالجو المحيط به وقد نمى والده ذلك التوجه وشجعه عليه وبصره من أمره ما يلزم التبصير به. وما أن دخل مرحلة الشباب إلا وهو على مستوى جيد من المعرفة والدراية وكان من بين المصادر التي كونت تأسيسه الأولي مجلس والده المصطخب بالفقه ونظم الشعر ومجادلة الحاضرين ومناقشتهم ومواجهة المشتكين والمدعين والفصل بينهم. وفي ذلك الحراك أورق عوده وانصقلت مواهبه وبرزت ملكاته إضافة إلى مكتسباته الكثيرة الأخرى من مرافقته لوالده في المهمات الكبيرة التي تسندها الدولة إليه وهو أحد كبار رجالها الثقاة المقتدرين ليتابع شؤونها ويحل معضلاتها وهو في مرافقته تلك الشاهد اليقظ الحافظ لكل ما يراه ويسمعه بذكائه المتقد ونباهته الملفتة مع صغر عمره كما كان الحاضر للقاءات أبيه بالإمام والسلطان مستمعا للحديث ومستوعبا لما يدور فيه.
من كل ذلك كان شيخنا مهيئا وهو في مطلع نشأته ليكون مساعدا لوالده خلفا لأخيه الذي أسندت إليه وظيفة القضاء بعيدا عن أبيه فصار هو كاتبه المدون للكثير من محرراته ومراسلاته ومؤلفاته ورسوله المؤتمن إلى أصحاب القرار لينقل إليهم ويستمع منهم ويأخذ توجيهاتهم ثم فيما بعد كان نائب والده حين غيابه ليضطلع بالمهمات ويقوم بتصريف الأمور في كفاءة تامة وهكذا قادته المشاهدات والممارسات والإلمام بقدر وافر من العلوم إلى تشكل شخصيته وبروزها للصدارة متحملة المسئوليات ومعالجة للمستجدات بتفوق واقتدار.
تخرج الشيخ من تلك الجامعة العلمية والعملية ليبدأ نشاطه الوظيفي فكان التوفيق حليفه والنجاح سنده في كل أمر أوكلت إليه مسئوليته ومن هنا كانت بداياته في ممارسة الأعمال الرسمية واتصاله بالناس مدبرا واعيا ومصلحا ناجحا مكتسبا المحبة والتقدير والرضا من الجميع محرزا الشكر والثناء ممن تعامل معهم ظافرا بكبير ثقتهم وبادلهم هو الثقة بمثلها باذلا لهم عنايته ورعايته مقدما الجهد كله لمساعدتهم وتذليل العقبات من أمامهم وتعززت هذه الصلة بينه وبينهم لتتوطد وتصبح مع الأيام رابطة يصعب فكها.
وقد أسندت إلى الشيخ بعد اكتمال نضجه مسئولية العديد من الولايات فقام بالواجب في إدارتها وتطويرها وحسن الإشراف عليها وتنظيم أمورها والانسجام مع شيوخها وقادة المجتمع المحلي بها وكانت خاتمة مسيرته بين الولايات ولاية إبراء التي أحبها وأمضى فيها سنين عديدة وظفرت بجميل اعتنائه وإخلاصه وأولاه أهلها صادق مشاعرهم ومساندتهم وكانوا خير معاون وداعم له في مساعيه لتطوير ولايتهم ورقيها والمطالبة بإنشاء المشروعات الخدمية فيها ولعل من أبرز الإنجازات الكبيرة التي تحققت لإبراء أثناء ولايته افتتاح المستشفى المرجعي إضافة إلى المدارس والطرق وغيرها من المنشآت الحديثة.
وفي أيامه وبتأييده وتشجيعه بدأ السعي والانطلاق لتحقيق الاندماج بين نادي إبرا ونادي المضيرب ليتكون منهما “نادي الاتفاق”.
وبسبب الألفة الحميمة التي نشأت بينه وبين إبرا وتعلقه بها قرر أخيرا اتخاذها سكنا دائما له بعد تقاعده من العمل ليمضي بقية حياته سعيدا هانئا بالعيش في ربوعها وبين أهاليها إلى أن وافاه الأجل المحتوم وصار ترابها مقرا أبديا لجسده حين فارقته الروح.
والشيخ محمد بن سيف كان محبا للشعر يتلوه ويترنم به في مجالسه وله هو نفسه منظومات متعددة تناولت أغراضا مختلفة في الوطنيات وفي الرثاء وفي الوصف وفي الاخوانيات والمطارحات.
وفي غير النظم له كذلك اهتمام بكتابة فن المقامات ولكن مقاماته فقدت للأسف الشديد ولم يعد موجود منها سوى واحدة هي مقامة “الفاطر” التي نشرتها مجلة “الغدير” في عددها العشرين الصادر في يوليو 1979.
أما منظوماته فقد قام نجله الشيخ عبدالله بن محمد بجمع الذي استطاع إدراكه منها في ديوان صغير وطبعه ليطلع الناس عليه كذكرى لوالده والديوان على صغره يمثل صورة من مأثور الشيخ يمكن للمهتمين بالأدب الرجوع إليها.
ومن أهم مناظيمه ما قاله في الترحيب باعتلاء السلطان قابوس لعرش عمان سنة 1970م وقد جاء فيها:
تولى زمام الحكم قابوس واستلم
وأفراح هذا الشعب موج قد التطم
وأضحى يدير الأمر بالرشد قائما
بعزم وحزم ثابت الجأش والهمم
بعيد المدى غوث الورى مظهر الهدى
عظيم الندى بحر من الجود والكرم
نواياه تبدي الخير في كل موقف
وتدعو إلى مستقبل زاهر أشم
وحين بدأ ظهور ملامح النهضة والتطور في شتى المجالات حاملة البشائر السعيدة بالمكاسب الكبرى للشعب العماني منطلقة به لآفاق الحضارة الحديثة المزهرة من حوله في جميع أنحاء العالم جاءت تحية الشيخ محمد بن سيف عام 1972م مبتهجة بما يراه أمامه من تنامي المنجزات المتصاعدة:-
بدر الكمال تجلى
وغيهب الليل ولى
والكون أشرق نورا
والوجه منه استهلا
والدهر أضحى فتيا
وصير الصعب سهلا
أتى بسلطان قسط
أقام في الناس عدلا
وقد شارك الشيخ في الاحتفاء بمجلة الغدير غداة صدورها مع أقرانه الناظمين من أهل تلك الفترة مبينا سروره بذلك وظل بعد ذلك متابعا لها يطالب بإرسالها إليه شهريا ويعاتبنا إن تأخر وصولها:
قد اتصل “الغدير” بنا فتاقت
إليه النفس من حسن البيان
فهيج كل ذي أدب نجيب
وحرك قلبه مما يعاني
ومن بين تفاعله في ركب الأدب انضمامه إلى متوالية نظمية دبجها مجموعة من الأدباء حول الشيخ أحمد بن عبدالله الحارثي الذي اتهمه البعض بالإساءة لنساء بلدته المضيرب حين عبر في إحدى قصائده عن إطرائهن ووصف جمالهن وتفاوتت مواقف تلك الردود بين المؤيد والمعارض والمحايد وممن شارك في تلك المساجلة الإخوانية الشيخ خالد بن مهنا البطاشي والشيخ بدر بن سالم العبري والقاضي أبو سرور حميد بن عبدالله الجامعي والشيخ محمد بن سيف وكان من المناصرين للشيخ أحمد بن عبدالله حيث قال:
وما أبديت فيه من انتقاد
لواصف خرد بيض حسان
لسان الحال منه يقول جهراً
“عذولي في الحلال من الغواني”
بلادي قلت ما قد قلت فيها
من الأوصاف في شتى المعاني
ولم يتعد بي أدبي لوصف
لغير أهيل داري أو مكاني
وقد نشرت مجلة “الغدير” كل تلك المنظومات متتابعة عددا بعد عدد.
ومن مناظيم الشيخ محمد التي اشتهرت وذاعت جوابيته لصديقه الشيخ خالد بن مهنا البطاشي حين أرسل يعاتب بعض أهل إبرا الذين تصور أنهم أساءوا إليه وتسببوا في نقله وفيها يقول “علاية إبرا قد سئمت مقامها” ضمن كلام به الكثير من الانفعال وكان في جواب الشيخ محمد بن سيف دعوة للتخفيف من الغضب والحث على اتباع منهج الهدوء وعدم الالتفات لمقالات القائلين وأن تكون صلة من ابتلي بتحمل المسئولية ليست بطريقة رد الفعل وإنما وفق شخصيته هو ذاته وعلى مستوى قدر مكانته دون اهتمام بما يبديه البعض أو يظهره من الشحناء واللجاج والاثارة والاصطخاب وان يجعل سلوكه معهم على الدوام سلوك الإنصاف وأسباغ المعروف على الكل المحسن والمسيء لا يحركه إلا مبدأ التزام الحق والعدل والعفو عن الزلل وتجاوز الأخطاء وفي ذلك يقول:
تحمل فكم نال العلا من تحملا
وكابد صروف الدهر إن مر أو حلا
ولا تبدي ما في النفس للغير من جفا
ولا حالة تستنكرنها من الملا
وخالق بني الدنيا بما أنت قادر
عليه ولا تبخل بما الله أجزلا
وأولي جميع الناس ما أنت أهله
وكن دائما مستبشرا متهللا
وأوسعهموا رفقا وحلما وشيمة
عسى أن ترى منهم محلا ومنزلا
أجل واصنع المعروف في أهله وفي
سواهم ولا تنظر لشكر ولا ولى
وإن منزل يوما نبا بك فانتقل
إلى منزل فيه تعيش مبجلا
وكانت بينه وبين الشيخ خالد بن مهنا مودة وصلة حميمة توطدت مع الأيام وظلت قوية ثابتة لم تتغير وكان التواصل بينهما مستمرا وقد كتب الشيخ خالد إليه في إحدى المرات يحثه على الاهتمام بإظهار تراث والده العلامة الشيخ سيف بن حمد وتحقيق كتبه وطباعتها مع الاعتناء في الوقت نفسه أيضا بكتب أخيه الأكبر القاضي الشيخ سالم بن سيف وقد استجاب الشيخ لتلك النصيحة وسعى لتحقيقها وبدأ في إظهار كتب الشيخين مطبوعة مثلما نبه الشيخ خالد.
ومناظيم الشيخ محمد بن سيف كثيرا ما تتبدى فيها مظاهر الحكمة والحث على القيم الشريفة والاعتداد بها فهو في الأغلب ينصح ويوجه منتهجا سبل التأمل والتروي والتزام المسارات الرشيدة كمثل ما رأينا في إجابته لصديقه الشيخ خالد بن مهنا ونفس معاني الصبر والتبصر وعدم التسرع تكررت في أقواله بصور متعددة. وفي منظومة أخرى له نجده يؤكد على ضرورة الالتزام بمحبة الناس ومراعاتهم ومخالقتهم والاهتمام بمناصرة المظلوم وإكرام الضيف والعفو عن المسيء وقد يلمح القارئ بها شيئا من ملامح سيرته الذاتية وممارساته الحياتية:
من لازم التقوى وللنفس حمى
عن كل ما تهوى وما تغشما
واتخذ الصبر الجميل حلة
وفوض الأمر لخلاق السما
وخالق الناس بخلق حسن
وأصدق القول إذا تكلما
واكرم الضيف لدى حضوره
ونصر المظلوم ممن ظلما
وقام بين الناس سعي جهده
مسددا أحوالهم متمما
ومن إذا المسيء يوما جاءه
معتذرا أعفاه عما أجرما
وفيها الكثير من الإشارات لسلامة التوجه وسديد الرأي الذي ينبغي للناس اتخاذه في حركات حياتهم. ومن إرشاداته المتزنة كذلك قوله في منظومة ثانية:
وكن آخذا بالحزم في كل موقف
فإن اتخاذ الحزم خير سجية
وساير زمانا انت تعلم أهله
وما عنك أحوال لهم بخفية
فعاملهم بالرفق مهما تجدله
سبيلا وأرشد للطريق السوية
ودع عنك سيف العنف لا تشهرنه
ففي ذاك تغيير النفوس الأبية
إرشاد جلي لمن ابتلي بتسيير أمور الناس والإشراف على متابعة أحوالهم ليتجنب العنف والغلظة ويجنح إلى اللين والمسايرة وأخذ الناس بالحسنى ومعاملتهم بالنصح والكياسة وتجنب الشدة إلا في الحالات الضرورية التي استحال فيها أسلوب الملاطفة والرفق.
والشيخ محمد بن سيف كان من رواة الشعر العربي وحافظيه بما في ذلك الشعر العماني كما أن لديه مخزونا ضخما من أخبار عمان وأحداثها وسير أهلها وحكايات أعلامها من أهل زمنه الذين عايشهم أو من الماضيين على مدى العصور المتعاقبة.
وهو بعد ذلك طبيب مجرب له معرفة بتشخيص الأمراض والعلاج منها فهو مجبر لكسور العظام وممارس للكي وعارف بأدواء الأعصاب وله دراية كبيرة بالأعشاب والنباتات واستخلاص الأدوية منها ومن جذور الأشجار وورقها وأزهارها وثمرها فهو أشبه بأولائك الحكماء القدامى الذين لهم من كل مجال نصيب.
وهذه الإشارات عن الشيخ محمد بن سيف هي بمثابة وقفات عجلى تجمل ولا تفصل.
وقد أسعدني الحظ بالتعرف على الشيخ الجليل والجلوس معه والاستماع لأطايب حديثه وقد كان صديقا لوالدي وما زلت أتشرف بالاحتفاظ ببعض رسائله الكريمة التي أتحفني بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق